لقد حان الوقت ربما لكي تتراجع الأمم المتحدة. وحان الوقت أيضًا لكي يدرك قادتنا، من الشرق والغرب، أن التوصل إلى سبيل مشترك للمضي قدمًا هو أمر ممكن.
إن أنظار العالم مركزة ربما على غزة، وتستحوذ أوكرانيا والحوثيون الذين يهددون الشحن في البحر الأحمر على الاهتمام أيضًا. لكن لا بد للعالم من الالتفات إلى دولة أخرى تستحق الاهتمام، إذ تتمتع ليبيا بأهمية جيوستراتيجية رئيسية. تفوق ليبيا بحجمها ألمانيا بمقدار خمس مرات، وتمتد على مسافة 2000 كيلومتر تقريبًا على ساحل المتوسط الحساس استراتيجيًا. كما أنها تشكل مسلكًا تعبره أعداد كبيرة من المهاجرين واللاجئين اليائسين المتجهين إلى أوروبا، فيما يتجمع أكثر من 700 ألف شخص على طول شواطئها. وتمتلك ليبيا أيضًا أكبر احتياطيات نفطية مؤكدة في أفريقيا اليوم، وهي تشكل مسألة حيوية إذ يواصل الصراع الدائر في أوكرانيا تهديد أمن إمدادات الطاقة في أوروبا. لكن ليبيا هي دولة منقسمة أيضًا بسبب الأسلحة والسياسة، في ظل وجود حكومتَين متنافستَين تفصلان الشرق عن الغرب، وتدعم كلًا منهما مجموعةٌ من القوى الأجنبية المتنافسة وتساندها عسكريًا.
في أوائل عام 2021، تم تشكيل حكومة الوحدة الوطنية التي يقع مقرها في الغرب كإدارة مؤقتة من خلال عملية تدعمها “الأمم المتحدة”، وكان من المفترض أن تنظّم انتخابات وطنية ديمقراطية في كانون الأول/ديسمبر من العام نفسه، بهدف إنشاء حكومة ليبية تدوم لفترة أطول. لكن بعد مرور ثلاث سنوات، ما زالت حكومة الوحدة الوطنية قائمة في طرابلس. وهي تبرر بقاءها باعتبار أن البلاد ليست جاهزة للانتخابات، كما أنها لا تزال تتمتع بدرجة كبيرة من الاعتراف الدولي بسبب غايتها الأولية.
أما في شرق ليبيا، فأنشأ مجلس النواب حكومة منافِسة هي حكومة الاستقرار الوطني، التي يدعمها الجيش الوطني الليبي، وتسيطر هذه الإدارة على غالبية أراضي البلاد إلى جانب الجزء الأكبر من المناطق الليبية المنتِجة للنفط. وكما هي الحال في الكثير من المحطات التاريخية الليبية الحديثة، تغير دور مجلس النواب وتبدل نفوذه. نتج هذا المجلس في الأصل من انتخابات عام 2014، وقد تم نفيه إلى شرق البلاد، حيث دعم حكومة عبد الله الثني التي تتخذ من طبرق مقرًا لها. ولاحقًا، عندما ظهرت حكومة الوحدة الوطنية كإدارة مؤقتة تَعِد بإجراء انتخابات وطنية ديمقراطية مبكرة (في العام نفسه)، دعم مجلس النواب تلك الإدارة المؤقتة، لكن بحلول أيلول/سبتمبر 2021، تلاشى هذا الدعم وأقر المجلس حجب الثقة عن حكومة الوحدة الوطنية بعد التصويت، مؤيدًا حكومة الاستقرار الوطني المنافِسة التي يقع مقرها في مدينة سرت. ومن غير المستغرب أن يؤدي الانقسام بين الإدارتين إلى مواجهة مسلحة، وفي مرحلة من المراحل، إلى محاولة مجلس النواب السيطرة على طرابلس. وقد فشل هذا الأمر وعادت البلاد إلى حالة الانقسام الفعّال نوعًا ما وإنما غير المرضي.
واليوم، وجدت ليبيا نوعًا من التوازن الهش، إذ تعمل بعض المؤسسات، مثل “المصرف المركزي” و”المؤسسة الوطنية للنفط”، بالتعاون مع الإدارتين. وهذه ليست إلا الظاهرة مؤقتة من دون شك.
إن نظام الحكم المنقسم الحالي مليء بالصراعات والمصالح المتضاربة، ما يحول دون صموده لفترة طويلة. وتدرك الأمم المتحدة ذلك وتمارس الضغط بدعم دولي قوي لاستئناف العملية الانتخابية. لكن على الرغم من بعض المواقف الدبلوماسية التي يتخذها الطرفان، تبدو في الواقع مبادرة الأمم المتحدة وكأنها وصلت إلى طريق مسدود ولم تراوح مكانها.
ليبيا هي بلد حاولت فيه المصالح الأجنبية فرض إرادتها على مدى تاريخنا الحديث. وفي كل حالة تقريبًا، كانت النتيجة على حساب الشعب الليبي. ولعل هذه هي اللحظة التاريخية التي يمكن فيها وقف هذا النمط.
لا شك في أن الأمم المتحدة تتمتع بحسن النية، وأن معظم ما تسعى إلى تحقيقه يبدو منطقيًا بالنسبة إلى ليبيا. لكن هذا ليس حلًا ليبيًا. فعلى الرغم من إجراء بعض المشاورات مع قادة ليبيا وتحسين بعض جوانب الخطة وتعديلها، يبقى ما ترجو الأمم المتحدة فرضه على البلاد حلًا يتم إعداده في أروقتها الخاصة بشكل أساسي.
ربما حان الوقت الآن ليخفف أصدقاؤنا الأجانب من فرض التوجيهات، والاستماع بدلًا من إعطاء التعليمات، ودعم العملية مطروحة بدلًا من محاولة طرح العملية.
لا يعارض الليبيون مفهوم الحكومة المركزية التي تلبي احتياجات البلاد ككل، حيث أعربت قيادة الجانبين مراراً وتكراراً عن دعمها لذلك عقب المحادثات التي استضافتها جامعة الدول العربية في القاهرة مؤخرا. ومع ذلك، لم تعكس تلك التصريحات دعماً جدياً لحل مبكر تفرضه الأمم المتحدة، وذلك رغم وجود اعتراف عملي بأن بعض الوظائف تحتاج حقًا إلى التنسيق والتوجيه على صعيد الدولة بأكملها. ولهذا السبب، تعلو “المؤسسة الوطنية للنفط” و”المصرف المركزي” فوق الانقسام الإداري ويعملان على نطاق الدولة. وهناك مجالات أخرى أيضًا ستستفيد بشكل شبه مؤكد من تشكيل حكومة مركزية.
لكن ما لم تدركه “الأمم المتحدة” هو الحس القوي بالهويات المنفصلة التي تتسم بها مختلف المناطق في ليبيا. تاريخيًا، عملت مناطق “تريبوليتانيا” (إقليم طرابلس) في الشمال الغربي و”قورينائية” (برقة) في الشرق وفزان في الجنوب الغربي بشكل منفصل جدًا عن بعضها بعضًا. وقد اعترفت الحكومة العثمانية بهذه المناطق كمقاطعات منفصلة تمامًا. وفي ظل هذا الشعور بالانتماء إلى مناطق مختلفة لدى السكان الذين يقل عددهم عن ثلاثة أرباع سكان لندن، وينتشرون ضمن تجمعات متباعدة في مختلف أنحاء هذا البلد الضخم، فضلًا عن الطبيعة القبلية القوية التي يتسم بها جزء كبير من المجتمع الليبي، تتخذ الهوية والسيطرة بشكل طبيعي أنماطًا محلية وإقليمية في هذه الأرض. فقد شكلت السيطرة المركزية في عهد القذافي انحرافًا من عدة نواحٍ، ولم تكن نمطية بالنسبة إلى تاريخ ليبيا وثقافتها.
مع ذلك، لا أعتقد أن أيًا من الحكومتين تعارض تمامًا مفهوم الإدارة الوطنية الواحدة التي تسيطر على المجالات المهمة ذات المصلحة الوطنية المشتركة. لكن من المنطقي جدًا أن أيًا من الطرفين لا يرغب في خضوع مجالات حيوية من الحكم الذاتي والأمن الإقليميين لسلطة بعيدة قد لا تشاركهما احتياجاتهما الخاصة أو تفهمها.
ما العمل إذًا؟ أولًا، يجب أن تعود الأمم المتحدة خطوتين إلى الوراء: عليها إدراك أن محاولاتها لفرض تصميم الإطار الانتخابي على الدولة الليبية لن تنجح فعلًا. بدلًا من ذلك، يمكن أن تؤدي الأمم المتحدة دورًا قيّمًا للغاية كجهة تيسير، ومن المؤكد أن تعيين النائبة الجديدة والممتازة لمبعوث “الأمم المتحدة” في ليبيا ستيفاني خوري سيعزز هذه القدرة.
الخطوة التالية هي أن الحكومتين بحاجة الآن إلى العمل معًا من أجل إيجاد طريقة للمضي قدمًا. فهما تتشاركان الرغبة نفسها في التمتع بحكم ذاتي إقليمي قوي. كما أنهما تدركان القيمة العملية التي توفرها الإدارة الوطنية في بعض المصالح الوطنية الضرورية. ومن خلال العمل معًا، يمكن أن تتعرفا على التوازنات والانقسامات التي يجب تطبيقها وأن تتقبلاها. ويمكن أن يحدد ذلك بدوره طبيعة أي إدارة وطنية مقترحة ونطاقها، وأن يحمي المصالح الحيوية لمختلف المناطق. وستبرز حتمًا حاجة إلى إنشاء بنية فيدرالية، وإنما ليس نظام فيدرالي سياسي. وبمعنى آخر، لا بد من وجود مهام ومسؤوليات محددة يجب معالجتها وتمثيلها على أساس وطني: يجب أن يعمل رئيس الوزراء الواحد ووزارة الخارجية ووزارة الداخلية و”المصرف المركزي” و”المؤسسة الوطنية للنفط” على المستوى الوطني. ولكن يجب تتولى البلديات أو الولايات مسؤولية عمل وزارة الصحة ووزارة التربية والتعليم ووزارة الاقتصاد وعدة مجالات حكومية أخرى. ولا بد من أن يشكل التمويل الأمني مسؤولية وطنية تديرها وزارتا الدفاع والداخلية، لكن يجب أن تتمتع كل منطقة من المناطق الثلاث بالسيطرة العملياتية على القوات المسلحة في أراضيها، مع تعيين ممثلين عنها في مكتب رئيس الأركان. وقد لا يتطابق كل ذلك مع الصيغ السياسية المقبولة في الولايات المتحدة أو أوروبا، لكنه يعكس واقع بلدنا المختلف جدًا واحتياجاته.
بطبيعة الحال، لن يتحقق ذلك بسهولة وبشكل فوري. فيجب التغلب على انعدام الثقة وحماية المصالح وتعزيزها. وسيشكل تقاسم الإيرادات مشكلة مباشرة وصعبة جدًا لا بد من معالجتها في بداية أي مفاوضات. يعيش نحو 70% من السكان الليبيين في إقليم طرابلس، لكن تتواجد نسبة 90% من موارد البلاد الطبيعية في فزان وبرقة. وسيكون التوصل إلى اتفاقٍ بشأن التوزيع العادل والمنصف للإيرادات مهمة صعبة. لكن الحكومتين تضمّان أشخاصًا قادرين وعمليين في قيادتيهما. وستدركان أن البنية التي يتم التفاوض عليها وصياغتها في ليبيا، والتي تعكس احتياجات ليبيا الفريدة وخصائصها وتحمي الحكم الذاتي الحيوي لمناطقها، يجب أن تشكل السبيل الأفضل والأكثر فعالية للمضي قدمًا. ومع ذلك، عندما تظهر التحديات والخلافات، يمكن أن تؤدي الأمم المتحدة دورًا كجهة تيسيرية وصديقة، ولكن ليس كجهة استبدادية خارجية تفرض رؤيتها الدخيلة الخاصة.
وعندما تصل هذه العملية إلى نتيجة مثمرة، ستضطلع الأمم المتحدة بدور حيوي من خلال قوة التأييد والاعتراف، وربما من خلال توفير مهارتها وخبرتها في الدعم التشغيلي عند التنفيذ الفعلي لأي عملية ديمقراطية متفق عليها.
لقد حان الوقت ربما لكي تتراجع الأمم المتحدة. وحان الوقت أيضًا لكي يدرك قادتنا، من الشرق والغرب، أن التوصل إلى سبيل مشترك للمضي قدمًا هو أمر ممكن، عبر توفير حل ليبي للتحدي الليبي. يمكن إدارة المصالح الوطنية الأساسية على الصعيد الوطني، وهذه مسألة يفهمها الجميع. لكن الاعتراف بإمكانية وجود درجة حرجة من الحكم الذاتي المحلي ضمن هذا الحل الليبي سيستدعي تدخل الجهات الفاعلة الرئيسية، وسيكون الحل الليبي قابلًا للتحقيق.