مقدّمة

تعيد مستويات الديون المرتفعة والاستراتيجيات المتبدّلة للإنقاذ المالي رسم المشهد الجيوسياسي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. في الواقع، تكتسب البلدان المصدّرة للمواد الهيدروكربونية – النفط والغاز الطبيعي – مكانة بارزة على حساب الدول ذات المديونية الشديدة مثل مصر والأردن ولبنان وتونس. ويؤدّي ذلك إلى تفاقم التهميش الاقتصادي للبلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل، ما يرغمها على الاصطفاف جيوسياسيًا إلى جانب جهات مموِّلة طموحة وغنيّة بالموارد، تتسبّب دوائر نفوذها المتداخلة أو المتصادمة بالمزيد من الاضطراب والتفكّك في المنطقة.

عمرو عادلي
عمرو عادلي أستاذ مساعد في الجامعة الأميركية في القاهرة، ومؤلّف كتاب بعنوان Cleft Capitalism: The Social Origins of Failed Market Making in Egypt (الرأسمالية المتصدّعة: الأصول الاجتماعية لفشل السوق في مصر) (منشورات جامعة ستانفورد، 2020).

من بين البلدان المُثقلة بالديون، واجهت مصر وتونس تحدّيات متشابهة، على الرغم من تباين مساراتهما السياسية والاقتصادية منذ العام 2011. فكلتاهما تسعيان إلى الحصول على الدعم المالي الخارجي، بعد معاناتهما من صدمات متتالية نتيجة ارتفاع أسعار المواد الغذائية وموارد الطاقة وزيادة معدّلات الفائدة. بعد سنوات من التقشّف، تتخبّط مصر، وهي أكبر مستورد للقمح في العالم، في مواجهة التداعيات الناجمة عن الحرب الروسية الأوكرانية. وبالمثل، واجهت تونس بدورها أوضاعًا مالية متدهورة باطّراد ودينًا عامًّا تكاد تعجز عن تحمّله.

منذ تفشّي وباء كوفيد-19، استفحلت أوجه الضعف البنيوية الطويلة الأجل في البلدَين بسبب الظروف الاقتصادية العالمية المناوئة. وأدّى تراجع الاستثمارات الأجنبية المباشرة جرّاء التباطؤ الطويل الأمد في الاقتصاد العالمي، والانكماش في التجارة العالمية وقطاع السياحة المحوري في مصر وتونس، والارتفاع الشديد في أسعار المواد الغذائية وموارد الطاقة، إلى تفاقم العجوزات والاحتياجات المالية. وعلى الرغم من أن مصر أبرمت اتفاقًا مع صندوق النقد الدولي في كانون الأول/ديسمبر 2022 جنّب البلاد أضرارًا محتّمة بعدتدفّق كبير للديون القصيرة الأجل إلى الخارج، فإنها لا تزال تعتمد بصورة أساسية على سخاء دول مجلس التعاون الخليجي، مع أن هذه الدول متردّدة حيال دعمها نظرًا إلى حاجاتها المالية الضخمة.

في تونس، عمد الرئيس قيس سعيّد إلى عزل البلاد عن شُركائها الغربيين وتقويض العملية الديمقراطية التي شهدتها تونس طوال عقد من الزمن، بعد الانقلاب الذي نفّذه في تموز/يوليو 2021. وقد عوّل نظامه السلطوي الشعبوي بصورة أساسية على الدعم المالي الضئيل الذي تقدّمه الجزائر المجاورة. ومثلما اضطُرَّت مصر إلى إبداء المزيد من الاصطفاف إلى جانب دول الخليج بسبب حاجاتها المالية، كان على تونس أن تفعل الأمر نفسه مع الجزائر، متخلّيةً عن النهج الأكثر استقلالية الذي اتّبعته في السابق.

حمزة المؤدّب
حمزة المؤدّب هو باحث غير مقيم في مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط، حيث تتركّز أبحاثه على الإصلاح الاقتصادي، والاقتصاد السياسي للنزاعات، وانعدام الأمن على الحدود في جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

ولّد هذا الاعتماد المزمن على التمويل الخارجي حالة تهميش على مستويَين طالت مصر وتونس. فقد أصبحتا هامشيتَين على مستوى الاقتصاد العالمي، إذ باتت سياساتهما الاقتصادية مطبوعةً إلى حدٍّ بعيد بالحاجة إلى الحصول على التمويل الخارجي والقبول بتفضيلات الدائنين لملء فجواتهما التمويلية الآخذة في الاتّساع. في غضون ذلك، عبّر اعتمادهما على البلدان المصدِّرة للمواد الهيدروكربونية عن المزيد من تهميشهما أيضًا على المستوى الجيوسياسي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ما أسهم في تقويض الاستقلالية النسبية التي تمتعت بها مصر وتونس لفترة طويلة في مجال السياسة الخارجية.

مسارات الاعتماد على التمويل الخارجي

منذ العام 2013، أصبحت مصر وتونس أكثر اعتمادًا بكثير على الموارد المالية الخارجية نتيجة الصدمات التي تعرّضت لها أسعار المواد الغذائية وموارد الطاقة ومعدّلات الفائدة. ففي ذلك العام، أقرّت تونس برنامجها الأول مع صندوق النقد الدولي بعد انتفاضة 2011، فيما اعتمدت مصر على الودائع الطويلة الأجل والقروض ذات الفوائد المنخفضة من دول الخليج لمحاولة تحقيق استقرارها الاقتصادي. أبرمت تونس مجددًا اتّفاقًا مع صندوق النقد الدولي في العام 2016، وأقدمت مصر على هذه الخطوة أيضًا. كان هذان البرنامجان أساسيَّين من أجل وصول البلدَين إلى الأسواق المالية الدولية، لكنهما جعلا مصر وتونس خاضعتَين للشروط التي تفرضها المؤسسات المالية الدولية، ما زاد من إمكانية تأثّرهما بالصدمات الخارجية، ولا سيما التغييرات في معدلات الفائدة على الدولار الأميركي. وقد ألقت هذه الصدمات ضغوطًا إضافية على السلطة الحاكمة في مصر، ما زاد من مخاطر حدوث توترات اجتماعية، فيما لا تزال تقوّض على نحو خطير قدرة سعيّد على ترسيخ قيادته السلطوية في تونس.

تعود مشاكل مصر الاقتصادية إلى المرحلة التي أعقبت ثورة 2011 وما نجم عنها من زعزعة للاستقرار. وقد تضافرت عوامل مثل انعدام الأمن الغذائي والعجوزات الكبيرة في الحساب الجاري والميزان التجاري لتزيد من اعتماد البلاد على التمويل الأجنبي، فارتفع رصيد الدين الخارجي وتفاقم عبء خدمة الدين. ومنذ أن أبرمت الحكومة المصرية اتفاقها مع صندوق النقد الدولي في أواخر العام 2016، اعتمدت برنامجًا نيوليبراليًا تضمّن خفضًا حادًّا في قيمة الجنيه المصري، ما أسفر عن ارتفاع معدلات التضخم. وفرض برنامج صندوق النقد الدولي أيضًا إجراءات تقشفية شديدة، من بينها خفض الدعم للسلع الأساسية، وتقليص الخدمات العامة، وتوسيع نطاق الضرائب غير المباشرة.

كان التحسُّن النسبي في مؤشرات الاقتصاد الكلّي ضروريًا لجذب استثمارات قصيرة الأجل في الديون الخارجية لمصر، والتي غالبًا ما يكون أجل استحقاقها أقل من عام. والحال هو أن حصّة الدين القصير الأجل في الاحتياطيات الخارجية لمصر تضاعفت ثلاث مرات من متوسط بلغ 11.86 في المئة في الفترة الممتدة بين العامَين 2000 و2010، إلى 29 في المئة في الفترة بين 2011 و2021. ويُعزى ذلك إلى معدلات الفائدة الحقيقية التي ارتفعت كثيرًا بعد إبرام الاتفاق مع صندوق النقد في العام 2016، إضافةً إلى تراجع قدرة مصر على جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة.

في البداية، تألّفت الديون القصيرة الأجل من ودائع قامت مصارف مركزية في دول مجلس التعاون الخليجي بإيداعها لدى البنك المركزي المصري. ولكن، اعتبارًا من العام 2017، استُبدِلت هذه الودائع تدريجيًا بتدفقات مالية قصيرة الأجل من صناديق الأسهم الدولية. لكن ذلك عرّض مصر بصورة أكبر لتقلّبات الأسواق المالية العالمية، وعكس أيضًا تدهور شروط الاقتراض للاقتصادات الطرفية في دول الجنوب العالمي، والتي كان عليها أن تسعى لجذب التمويل القصير الأجل في ظل غياب الاستثمارات الأطول أجلًا.

في تونس، كان الوضع مختلفًا إلى حدٍّ ما. فبعد الانتفاضة الشعبية في فترة 2010-2011، تدفّقت إلى البلاد أموال كبيرة من أنواع مختلفة، تراوحت بين قروض منخفضة الفوائد، وودائع في البنك المركزي التونسي، وقروض مضمونة من الولايات المتحدة، ومساعدات من الاتحاد الأوروبي في مجال التمويل الكلّيللميزانيّة، وغير ذلك. وقد ساعدت هذه التدفقات البلاد على التعامل مع التراجع الحاد في الاستثمارات الأجنبية المباشرة وانهيار القطاع السياحي بعد الهجمات الإرهابية في العامَين 2015 و2016. في ذلك الوقت، اعتبرت النُخب السياسيّةهذه التدفقات كنوع من الريع المدفوعبعملية التحول الديمقراطي في تونس. ولكن صنّاع القرار التونسيين شعروا بالثقة بأن الشركاء الدوليين سيستمرون في دعم الديمقراطية في تونس مهما حدث، لذا لم يكن لديهم حافز للامتثال لشروط المؤسسات المالية الدولية. فبدلًا من تطبيق الإصلاحات لخفض أعباء الديون التونسية، اعتمدت النخب الحاكمة على التدفقات المالية لكسب الوقت وتجنّب إجراء الإصلاحات الاقتصادية الذي تشتدّ حاجة البلاد إليها.

نظرًا إلى الأوضاع المالية المتدهورة، ما كان من الحكومة إلّا التفاوض من أجل إبرام اتفاق مع صندوق النقد في العام 2016. ومن المطالب التي وضعها الصندوق خفض فاتورة رواتب القطاع العام والدعم الحكومي للسلع الأساسية، وتطبيق الإصلاح الضريبي. ولكن إخفاق القادة السياسيين في التوفيق بين المصالح الاقتصادية والقطاعية المتضاربة جعل من الصعب تبنّي الإصلاحات وخفض الدين العام. وحين رأى الصندوق أن برنامجه لا يحرز أي تقدّم، قرّر في العام 2019 تعليق صرف دفعات القروض، ما كشف عن تحوّل في موقفه فيما أصبحت الأوضاع الاقتصادية التونسية شديدة الهشاشة.

على الصعيد الداخلي، شجّع إخفاق الحكومات التونسية المتعاقبة في التوصل إلى تسوية لتقاسم الأعباء، الفاعلين المحليين – من نقابات ونخب أعمال وشركات – على التمسّك بمطالبهم. وتكبّدت تونس في نهاية المطاف ثمن التأخّر في تطبيق الإصلاحات بعد تفشّي وباء كوفيد-19. فقد أدّت تداعيات ذلك على النشاط الاقتصادي إلى تسجيل معدل نمو سلبي بمقدار 8.6 في المئة من إجمالي الناتج المحلي الحقيقي في العام 2020، وهو أكبر انخفاض شهده اقتصاد البلاد منذ استقلالها في العام 1956. حاولت تونس التعافي من هذه الصدمة، إلا أن اندلاع الحرب الأوكرانية في شباط/فبراير 2022 فاقم اختلالاتها المالية. فقد سجّل الدين العام زيادة حادّة من 47.7 في المئة من إجمالي الناتج المحلي في 2012 إلى 88 في المئة في 2022. وازدادت النسبة المئوية للدين القصير الأجل في إجمالي الدين الخارجي التونسي من 21.7 في المئة في 2011 إلى 32.4 في المئة في 2021. وسُجِّلت أيضًا زيادة كبيرة في حصّة الدين القصير الأجل كنسبة مئوية من إجمالي الاحتياطات من 51 في المئة في العام 2011 إلى 152.5 في المئة في العام 2021. وقد سلّطت هذه الاتجاهات الضوء على انكشاف البلاد على الأسواق المالية الخارجية والتراجع الحاد في المصادر الطويلة الأجل للعملات الصعبة، أي الاستثمار والسياحة والإيرادات من صادرات الفوسفات التونسية. وكما في مصر، أدّى الارتفاع السريع في أسعار الطاقة الدولية، والاعتماد الشديد على الواردات الغذائية، وزيادة معدلات الفائدة العالمية إلى اشتداد حاجة تونس إلى العملات الصعبة. ولكن بعد العام 2019، فقدت تونس إمكانية الوصول إلى الأسواق المالية الدولية بعد أن عمدت وكالات التصنيف الأساسية بخفض تصنيفها الائتماني بصورة دورية.

في خضمّ هذا الوضع المتدهور، سعت تونس إلى إبرام اتفاق جديد مع صندوق النقد الدولي، ووقّعت في تشرين الأول/أكتوبر 2022 اتفاقًا معه على مستوى الخبراء، بانتظار مصادقة مجلسه التنفيذي. أدّى انقلاب سعيّد وعدم التزامه بالإصلاح، إضافةً إلى الوعود التي نكثت بها تونس على مدى العقد الماضي، إلى استمرار مطالبات الصندوق لها باتّخاذ تدابير تظهر استعداد الرئيس للشروع في تطبيق برنامج إصلاحي صعب مدتّه أربع سنوات (2023-2027). لكن حدث العكس في نيسان/أبريل 2023، حين رفض سعيّد شروط الصندوق ووصفها بأنها “إملاءات”. وأسفر ذلك عن انخفاض إضافي للسندات التونسية في الأسواق الدولية، مُلحقًا ضررًا أكبر بتصنيف البلاد الائتماني ومُهدّدًا استدامة دينها العام. وفي حال بلغت تونس أدنى تصنيف ائتماني لها، لن يستطيع الاتحاد الأوروبي ببساطة منحها مبالغ إضافية بموجب تنظيماته.

نتيجة عجز تونس عن تغطية حاجات إنفاقها وتأمين دعم مالي دولي كبير، بدأت تواجه مشاكل على مستوى تأمين الواردات الضرورية. ففي العام 2022، بدأت سلع ومنتجات أساسية مثل السكر والزيت النباتي والأرز والقهوة والحليب تغيب عن رفوف متاجر البيع بالتجزئة. لذا، من غير المفاجئ أن يكون المأزق الذي تعيشه تونس ومصر نتيجة المصاعب التمويلية قد أثّر على مقارباتهما السياسية الإقليمية.

التمويل الخارجي وتداعياته الجيوسياسية

تعيّن على مصر وتونس، في إطار مساعيهما لتلبية حاجاتهما المالية، مراجعة سياساتهما الخارجية والاصطفاف إلى جانب دول ساعدت في تمويلهما أو تستطيع ذلك. دفع هذا الواقع مصر إلى الاقتراب أكثر من المواقف السياسية لدول مجلس التعاون الخليجي، مقارنةً مع دورها السابق كدولة رسمت معالم توجهاتٍ سياسية كبرى في العالم العربي. أما تونس فلم تحصل على دعم ملحوظ إلّا من الجزائر، وتخلّت عن سياسة الاعتدال التقليدية التي كانت تنتهجها حيال شؤون منطقة شمال أفريقيا. فاقمت هذه التحولات عملية التهميش الإقليمي لدولتَين اضطلعتا في السابق بدورٍ رائدٍ في التاريخ العربي خلال مرحلة ما بعد الاستعمار.

نظرًا إلى المشاكل الاقتصادية التي واجهتها مصر خلال العقد الماضي، احتاجت بصورة متكررة إلى الدعم المالي من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. حاولت الدولتان الخليجيتان إرساء الاستقرار في مصر لأسباب سياسية وجيو-استراتيجية، من بينها كبح جماح الانتفاضات العربية، وإزاحة الإسلاميين عن الحكم، وإبقاء مصر ضمن نطاق نفوذهما. وأدّت قطر دورًا متعاظمًا أيضًا. فبعد سنوات من العلاقات المشحونة التي شاركت خلالها مصر مع السعودية والإمارات والبحرين في فرض عقوبات على قطر، بادرت القاهرة والدوحة إلى استئناف العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية في العام 2022، ما سهّل عودة الاستثمارات القطرية إلى مصر.

لكن موقف دول الخليج حيال مصر تبدّل اليوم، إذ لم يعد التركيز يقتصر على الاعتبارات السياسية والأمنية وحسب، بل بات المستثمرون الخليجيون يتطلّعون على نحو متزايد إلى تحقيق عائدات أكبر على استثماراتهم من خلال زيادة حصصهم في أصول مملوكة للدولة، يتمتّع بعضها بأهمية استراتيجية، على غرار المرافئ والمرافق العامة. في موازاة ذلك، تتزايد المخاوف المرتبطة بالاقتصاد المصري. فنظرًا إلى اعتماد القاهرة على حزم إنقاذ مالي أكبر وبصورة أكثر تواترًا، باتت حكومات الخليج مهتمّة بسياسات الاقتصاد الكلّي في مصر. تاريخيًا، استخدمت مصر علاقاتها الوثيقة مع دول الخليج كبديل عن الحصول على تمويل من صندوق النقد، لكن يبدو أن هذه الصفحة قد طويت الآن. ففي كانون الأول/ديسمبر 2022، وافق الصندوق على إتاحة المزيد من التمويل لصالح مصر من دول مجلس التعاون الخليجي، في خطوة هي الأولى من نوعها. علاوةً على ذلك، تريد دول الخليج، بالتماشي مع شروط صندوق النقد، أن تعمد مصر إلى خفض دور الدولة في الاقتصاد، وإبداء شفافية أكبر حيال الأوضاع المالية للشركات المملوكة للدولة.

تواجه تونس أيضًا مأزقًا. فبعد عقدٍ من الدعم المالي والحصول على الأموال بشكل مُيسَّر، باتت البلاد عالقة في ظل حكومة سعيّد، الذي عزل تونس عن محيطها الدولي من دون امتلاك أي خطة احتياطية. فبحسب الاتفاق على مستوى الخبراء الذي تمّ التوصل إليه في العام 2022، وافق صندوق النقد الدولي على منح تونس 1.9 مليار دولار، لكنه توقّع أن تعمد دول أخرى إلى سدّ الفجوة التمويلية. كان من المرجّح أن السعودية والكويت والإمارات ستفعل ذلك في بادئ الأمر، إلا أنها تركت هذه المهمة في نهاية المطاف للدول الأوروبية.

يشير عدم تأمين الحكومة التونسية التمويل اللازم إلى أن سعيّد يفتقر بشدة إلى الموارد المالية اللازمة لتوطيد أركان نظامه ونزع فتيل التوترات الاجتماعية. بدلًا من ذلك، حاول الرئيس كسب الوقت، ما أضفى شرعيةً على وجهة نظر دولية مفادها أنه غير مستعد أو غير قادر على معالجة مشاكل تونس المالية والاقتصادية. وزادت تصريحاته العنصرية ضدّ “المهاجرين من منطقة أفريقيا جنوب الصحراء” في شباط/فبراير 2023 الأمور سوءًا. وردًّا على العنف والمضايقات التي أحدثتها تصريحات الرئيس، أعلنت مجموعة البنك الدولي في 7 آذار/مارس أنها ستعلّق المناقشات حول إطار الشراكة القُطرية لتونس للسنوات المالية 2023-2027، ما قد يؤدّي إلى تجميد التزاماتها لتونس خلال السنوات المقبلة.

ارتكز رفض سعيّد لشروط صندوق النقد الدولي الأخيرة على سببَين: الأول هو اعتقاده بأنها تشكّل انتهاكًا لسيادة البلاد. يعتقد الرئيس أن على التونسيين الاعتماد على أنفسهم لحلّ أزمتهم الاقتصادية، التي يعتبرها ناجمة عن ممارسات النخب الفاسدة. أدّى هذا السلوك المُشكّك إلى عدم الثقة في شركاء أساسيين، بما في ذلك المؤسسات المالية الدولية. تُبادله الولايات المتحدة والدول الأوروبية فقدان الثقة، إذ تخشى أن يؤدي خطاب سعيّد المعادي للغرب إلى حدوث تغيّر في التوجهات السياسية والاقتصادية التونسية، التي ألمح الرئيس أنه يُعيد النظر فيها.

أما السبب الثاني للرفض فهو خوفه من وقوع احتجاجات شعبية. أدّت مساعي الرئيس الأُحادية الجانب لإعادة تشكيل النظام السياسي التونسي وإدارة الشؤون العامة إلى إبعاده عن الكثير من القوى الاجتماعية. ويقوّض عجز سعيّد عن تشكيل تحالف اجتماعي واسع شرعية النظام السياسي الجديد، ما دفعه إلى الاعتماد على الأجهزة الأمنية للتعويض عن افتقاره إلى الدعم الشعبي. كذلك، تسبّب رفضه للهيئات الوسيطة بين الدولة والمجتمع بخلافات بينه وبين معظم الأحزاب السياسية والنقابات العمالية والاتحادات المهنية. ويفاقم هذا الواقع خطر عودة الاحتجاجات إذا استمر تدهور الوضع الاقتصادي، لكن أيضًا إذا طبّقت تونس الشروط التي لا تحظى بالشعبية والتي ينصّ عليها اتفاق صندوق النقد الدولي.

نظرًا إلى عزلة تونس، تعيّن عليها الاعتماد بصورة حصرية على الدعم المالي من الجزائر، وذلك على شكل قروض وودائع وإمدادات غاز بأسعار تفضيلية. فمنذ وصول سعيّد إلى سدة الحكم، بلغ حجم القروض والودائع الجزائرية في البنك المركزي التونسي 800 مليون دولار أميركي. وفي المقابل، عمدت تونس إلى الاصطفاف بشكل أكبر إلى جانب الجزائر في صراعها مع المغرب. تاريخيًا، حافظت تونس على موقف حيادي بين الدولتَين، لكن ذلك لم يعد ممكنًا بعد أن أصبحت تعتمد ماليًا على الجزائر. وتجلّت نقطة التحوّل هذه حين استقبل سعيّد رسميًا قادة من جبهة البوليساريو في تونس العاصمة في أيلول/سبتمبر 2022، ما أظهر أن تونس تنحاز إلى جانب الموقف الجزائري في صراع الصحراء الغربية. يُشار إلى أن جبهة البوليساريو التي تدعمها الجزائر تريد استقلال الصحراء الغربية عن المغرب، وقد أدّت هذه الخطوة إلى أزمة دبلوماسية مفتوحة بين تونس والرباط، إذ أقدمت الدولتان على استدعاء سفيرَيهما.

نظرًا إلى أوجه الضعف المالية التي تعانيها تونس، توشك على التخلّف عن سداد ديونها. وثمة عوامل عدة تفاقم على نحو خطير المشاكل المرتبطة بديونها، وهي: تدهور علاقتها مع المؤسسات المالية الدولية، وغياب الدعم المالي من الدول الخليجية أو الأوروبية، وعجزها عن الوصول إلى الأسواق المالية الدولية. تضطلع تونس بدور محدود في الأولويات السياسية والاقتصادية والأمنية الخليجية، لذا لم تقدّم دول الخليج الأموال لها. أما الصين، التي يراها داعمو سعيّد كبديل محتمل، فلم تدخل إلى الخط ويُرجَّح أن تبقى بعيدة عن مشاكل تونس. واقع الحال أن كل هذه العوامل تزيد حالة التهميش التي تعيشها البلاد، ما يفاقم مأزقها الاقتصادي والسياسي.

بدأ التهميش النسبي لموقف مصر مقارنةً مع شُركائها الخليجيين قبل سنوات عدة، ويبدو أن وتيرته تتسارع. ففي العام 2017، تنازلت مصر عن جزيرتَين غير مأهولتَين ولكنهما تتمتعان بأهمية استراتيجية في البحر الأحمر، وهما تيران وصنافير، إلى السعودية، الأمر الذي أثار جدلاً في أوساط المعارضة في مصر. كانت للمملكة أسباب عدّة وراء رغبتها في السيطرة على الجزيرتَين، مثل اعتبارها أنهما كانتا أساسًا ملكًا لها قبل تسليمهما إلى مصر في العام 1950 لتجنّب استيلاء إسرائيل عليهما. لكن صُوّرت هذه الخطوة في مصر بأنها تنازل عن أراضٍ ذات سيادة لقاء الحصول على مساعدات مالية سعودية.

كذلك، تراجعت أهمية مصر الجيو-استراتيجية كوسيط محتمل بين العالم العربي وإسرائيل. وقد كان هذا الدور حجر الأساس في علاقات مصر مع الولايات المتحدة بعد معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية التي أُبرمت في العام 1979. لكن اليوم، وبفضل ما عُرف بالاتفاقيات الإبراهيمية، باتت دولتان في مجلس التعاون الخليجي، هما الإمارات والبحرين، تقيمان علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، إلى جانب المغرب والسودان، ما أنهى احتكار مصر والأردن للعلاقات مع إسرائيل. لهذا السبب ربما رحّبت مصر بالاتفاقيات الإبراهيمية مع تحفّظات ضمنية، من خلال تركيزها على ضرورة التوصل إلى اتفاق مع الفلسطينيين، وليس فقط مع الدول العربية. لكن، وسط تدهور الأوضاع الاقتصادية المصرية في أوائل العام 2022، ولجوء مصر بشكل طارئ إلى تمويل مجلس التعاون الخليجي، شارك وزير الخارجية المصري في قمة النقب التي استضافتها إسرائيل في شهر آذار/مارس، وحضرتها كذلك دول عربية وقّعت اتفاقيات سلام مع إسرائيل. وأشارت هذه الخطوة إلى أن مصر ستحافظ على دور نشط في عمليات التطبيع العربية مع إسرائيل، والتي لعبت دولة خليجية بارزة هي الإمارات دورًا أساسيًا فيها، على الرغم من أنها أفضت إلى تراجع نسبي في مكانة مصر الإقليمية.

خاتمة

فيما تبذل كلٌّ من مصر وتونس مساعٍ حثيثة لإرساء الاستقرار في البلدَين، فإن تهميشهما المتزايد قد يُدخلهما في حلقة مفرغة. فكلما تفاقمت مشاكلهما الاقتصادية، تعاظمت معها حاجاتهما المالية، وتزايد اعتمادهما الجيوسياسي على الجهات المموّلة الإقليمية. والمشكلة هي أن تهميشهما الجيوسياسي يحرمهما من هامش المناورة، على وقع تراجع أهميتهما في السياق الجيوسياسي الإقليمي والعالمي المتغيّر. ففي ظل التحولات العميقة التي تخوضها دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تبدو مصر وتونس غائبتَين عن عملية صنع النتائج. فقد غابت مصر عن المصالحة بين السعودية وإيران، فيما عرض الرئيس الجزائري في أيار/مايو 2022 أن يؤدّي دورًا لحلحلة الأزمة السياسية التي تشهدها تونس، وكأن القادة التونسيين عاجزون عن حل الأزمة بأنفسهم. إذًا، حين تسود حالة التهميش، يصعب على الأرجح تغيير هذا الواقع.